Articles

المهندس عادل عميمي: لماذا على الدولة دعم قطاعي التعليم و الصحة؟

المهندس عادل عميمي: لماذا على الدولة دعم قطاعي التعليم و الصحة؟

بعد تقديمه في أبريل من سنة 2020 قراءة استشرافية جد موفقة لضرورة تبني الدولة المغربية لمنظومة رعاية اجتماعية حقيقية بعد تفشي فيروس كورونا. يعود المهندس الاحصائي عادل عميمي، خريج المعهد الوطني للإحصاء و الاقتصاد التطبيقي بالرباط. إلى التفصيل في الأسباب العلمية التي تجبر الدولة على دعم قطاعي التعليم و الصحة رغم إكراهات القطاعين و دعوات بعض الأطراف إلى خوصصتهما كليا.

مقدمات نظرية

يطرح عالم الاقتصاد ثلاثة أسئلة أولية في بحثه عن الطريقة المثلى لتدبير السوق المرتبطة بمنتج معين. يتسائل أولا، عن الكمية الأمثل لما يجب عرضه أو طلبه من هذا المنتوج؟ ثم، عن السعر الأمثل لما تم عرضه أو طلبه؟و أخيرا، عن التوليفة المثلى للعوامل adil amimiالضرورية لإنتاج الكمية المطلوبة؟ وفي طريق بحثه عن إجابات الأسئلة السابقة، فإنه يمر لزاما عبر ثلاث نظريات تشكل أساس علم الاقتصاد الجزئي. نظرية أولى تتطرق لنمذجة سلوك المستهلك، و الثانية تحاول نمذجة سلوك المنتج. أما الثالثة فتدرس لحظة الالتقاء بين إرادي العرض و الطلب.

كنت دائما و أنا أعيد قراءة هذه النظريات، أقف مندهشا أمام واحدة من نتائجها. ذلك أن الحافز لدى المستهلك هو ذاتي و حيث أن هذا الأخير تحكمه الرغبة في البحث عن السلة الاستهلاكية التي تمنحه أقصى مستوى من المنفعة و الحاجز الوحيد لهاته الرغبة يتمثل في مستوى دخله و في منظومة الأسعار التي تحددها السوق.

تقول نظرية المستهلك أنه عند نقطة التوازن تتحقق القاعدة التالية: إذا كانت المنفعة الهامشية لمنتوج معين هي ضعف ما يحققه منتوج آخر على الهامش فبالضرورة يكون سعر المنتوج الأول هو كذلك ضعف المنتوج الثاني. لست أدري عزيزي القارئ هل تعتلي محياك الدهشة مثلي أم ليس بعد؟

المنتج من جهته، يشغل كمية معينة من عوامل الإنتاج (عمل، رأس مال) لتحقيق مستوى ربحي أقصى. المستوى الأمثل للإنتاج و لتوظيف عوامله يتحقق في اللحظة التي تكون فيها كلفة آخر وحدة إنتاج مشغلة مساوية تماما للقيمة السوقية للكمية المنتجة بفضل هذه الوحدة.

تداخل هاذين السلوكين (سلوكي المنتج و المستهلك) يفضي إلى وضعية التوازن الأمثل و المؤمن للتوظيف الكامل لعوامل الإنتاج. المثالية في حالتنا هاته لها معنى خاص و هو المعنى الذي عرفه عالم الإقتصاد و الإجتماع الإيطالي (Velfredo pareto). هذا الأخير يعرف التوازن بالوضعية التي لا يستطيع من خلالها أي فاعل تحسين وضعه الإقتصادي دون الإضرار بفاعل آخر على الأقل.

عند قبولنا بالمقدمات النظرية التي شرحتها في الفقرات السابقة، يبقى السؤال المطروح هو : هل واقع الأسواق يؤكد حقيقة الأوصاف التي تسم سلوكي المنتج و المستهلك ؟

وجهت الأدبيات الاقتصادية انتقادات كثيرة لنظرية الاقتصاد الجزئي الكلاسيكية. و اعتبرت أنها لا تجد طريقا للتحقق في حالات خاصة كثيرة. سأكتفي في هذا المقال بالحديث عن حالتين اثنتين لهما ارتباط وثيق بسوقي التعليم و الصحة. و من خلال هذا التحليل سأحاول إثبات أهمية تدخل الدولة لدعم استهلاك الأسر من خدمات هاذين القطاعين. الظاهرة الأولى التي تمنع توازن التشغيل الكامل من التحقق هي ظاهرة الآثار الجانبية « Externalité ». أما الظاهرة الثانية فهي ما أسميه ظاهرة الانتقاء العكسي « Anti-sélection ».

قطاع التعليم و ظاهرة الآثار الجانبية

نتحدث عن وضعية اقتصادية بآثار جانبية، حينما يرتبط نشاط استهلاكي أو إنتاجي بأثر غير مباشر على منفعة أو أرباح مجموعة مستهلكين أو منتجين غير معنيين بهذا النشاط. الأمثلة على هذه الوضعية متعددة، فمنها السلبي و منها الإيجابي. فالمصانع الملوثة للبيئة تمثل أنشطة إنتاجية بأثر جانبي سلبي لكون السياسة الإنتاجية للمصنع لم تأخذ بعين الاعتبار كلفة تدبير و تدوير نفاياتها. وعكس ذلك، توجد أنشاطة اقتصادية ذات آثار جانبية إيجابية. كالحالة التي ذكرها عالم الاقتصاد J.Meade و التي تخص ضيعة لتربية النحل بجانب أخرى لزراعة الورود. الأولى توفر للثانية الآلية لتلقيح الزهور في حين هذه الأخيرة تؤمن الرحيق الضروري لإنتاج العسل.

عندما يغفل المستهلك جزءا من المنفعة التي تنتج عن نشاطه الاستهلاكي يكون اختياره بعيدا عن تحقيق المستوى الأمثل للتوازن بحسب باريطو. الطلب على المنتوج ذو الأثر الجانبي الإيجابي هو بالضرورة أقل مما يجب طلبه.

المنتج من جهته قد يتسبب في آثار جانبية سلبية و في هذه الحالة تكون الكمية المعروضة أكثر من اللازم. حينما يتعلق الأمر بالتعليم، هل يمكن اعتبار هذه الخدمة ذات أثر جانبي إيجابي ؟

حضيت اقتصادات التربية بمكانة مهمة في الأدبيات الاقتصادية الحديثة. تحدث مارشال، باعتباره أحد مؤسسي المدرسة الكلاسيكية، عن الآثار الجانبية الإيجابية للتعليم في كتابه « المبادئ الاقتصادية » . يعتبر مارشال أن المحيط السوسيوثقافي يؤثر على فرص الفرد في تحسين وضعه المادي الاجتماعي. لذلك على المدرسة العمومية أن تلعب دورا مركزيا في هذه العملية و تعويض كل نقص قد يحرم الفرد مستقبلا من فرص النجاح. بحسبه يعتبر الإنفاق العمومي على التعليم هو بمثابة استثمار وطني بمردودية ربحية مؤكدة على المستوى البعيد. دعم إنفاق الأسر في مجال التعليم هو الآلية التي تقترحها النظرية الاقتصادية لدفعها ( أي الأسر) إلى رفع مستوى طلبها عل هذه الخدمة و من تمت وضع كمية الطلب في مستواها الأمثل بحسب باريطو. إنفاق الدولة تبرره قدرة هذه الأخيرة على تقدير المنفعة المتأتية كأثر ناتج عن استهلاك الخدمة التعليمية.

إلى جانب المنظور القائم على نظرية المستهلك، فالإنفاق على التعليم هو بمثابة استثمار في الرأس مال البشري باعتباره أحد عاملي الإنتاج إلى جانب الرأسمال المادي. هل هذا الاستثمار يجب أن يقتصر على الجوانب المرتبطة بالكفاءة المعرفية أم أن الأمر عليه أن يطال الكفاءة الجسدية كذلك. ذلك ما سأحاول مناقشته في الجزء الثاني من هذا المقال و الذي سأخصصه لقطاع الصحة.

قطاع الصحة و ظاهرة الإنتقاء العكسي

اقتصاديات الصحة بدورها حظيت باهتمام كبير في الأدبيات الاقتصادية. انطلاقا من مقاربة العرض و الطلب التي عرضتها في مقدمة هذا المقال، أطرح السؤال عن الطريقة المثلى لتدبير الخدمة الصحية. و بالتالي تأمين مستوى التوازن الأمثل بحسب باريطو؟ نفس السؤال يمكن طرحه بطريقة سلبية من خلال البحث عن الأسباب التي تمنع آلية العرض و الطلب من تحقيق مستوى التوازن المؤمن للتشغيل الكامل؟

إذا كانت الآثار الجانبية هي التي تلحق الخلل بسوق الخدمة التعليمية فإن سوق الخدمة الصحية يخضع لمنطق آخر و ذلك كونه سوقا لتدبير المخاطر بالدرجة الأولى.

إلى جانب الطبيب و المريض هناك طرف ثالث يتدخل في لعبة العرض و الطلب الصحيين. الأمر يتعلق بالشركة المؤمنة التي تتحمل كلفة الرعاية الصحية بمقابل بوليسات التأمين التي تبيعها. العلاقة التعاقدية التي تجمع بين شركات التأمين و الأشخاص الذاتيين تتميز بكونها غير متوازنه على مستوى امتلاك المعلومة الضرورية لإنشاء هذه العلاقة. فمن جهة، يتوفر الطرف المؤمن (بكسر الميم) على التجربة و الخبرة اللتين تمكنانه من توقع مستوى المخاطر الصحية التي يتعرض لها الطرف المؤمن (بفتح الميم) . في حين أن هذا الأخير يتعاقد و هو يجهل جوانب الالتزام التي تقع على عاتق الطرف الآخر.

بشروط لعب كهاته نجد أن شركات التأمين لا تمنح خدماتها إلا للأشخاص الذين يتوفرون على مؤشرات مخاطر ضعيفة. في حين أن الفئات الأخرى تجد نفسها أمام كلفة تأمين عالية جدا. هذه النتيجة التي تسمى بظاهرة الإنتقاء العكسي. نتحدث عن انتقاء عكسي حينما تؤدي لعبة العرض و الطلب إلى نتائج معاكسة للموقع و المرغوب. تساهم الأسواق الحرة عادة في تحقيق المستويات الأدنى الممكنة للأسعار كما أن التنافس بين الشركات يحفزها على رفع الجودة لإقناع الزبائن باختيار منتجاتها. الأمر يحدث بشكل عكسي لوجود اختلال في مستوى امتلاك المعلومة بين طرفي اللعبة.

برجوعنا إلى الواقع العملي نجد أن هذا الأخير يؤكد ما ذهبت إليه في هذا التحليل. فالولايات المتحدة الأمريكية هي النموذج الأمثل لدولة تدبر خدماتها الصحية بمنطق السوق الحر. و على الرغم من كونها الاقتصاد الأقوى في العالم، إلا أن نظامها الصحي يعتبر نظاما متخلفا في نادي الدول المتقدمة. حيث يوجد أكثر من 40 مليون أمريكي خارج نظام التأمين على المرض و ترتيبها العالمي يتجاوز المرتبة الثلاثين. في حين تظهر أنظمة كفرنسا و الدول الإسكندنافية مستويات أعلى من الفعالية.

بخصوص ضرورة ضبط سوقي التعليم و الصحة

إذا كانت الأسواق الحرة للتعليم و الصحة غير فعالة و عاجزة عن تحقيق شروط التوازن الضرورية لتأمين التشغيل الكامل، فكيف يمكن تصحيح هاته الاختلالات و مواجهة المشاكل المرتبطة بظاهرتي الآثار الجانبية و الانتقاء العكسي؟ الحل يكمن في استدعاء الدولة و إنتاج سياسات عمومية بغرض ضبط أسواق هاتين الخدمتين. غير أن نمط تدخل الدولة ليس هو نفسه في كلتا الحالتين.

كقناعة شخصية، لا أعتقد أن للقطاع الخاص مكانا في مجال الخدمة التعليمية. فهي خدمة عمومية بامتياز، إنتاجا و تمويلا. كل العبء يجب أن يقع على عاتق الدولة. أي أنه من واجبها تأمين الخدمة التعليمية مجانا لكل المواطنين، بنفس الدرجة و بنفس الظروف و لا تمييز في ذلك بين غني أو فقير.

و الأمر مختلف بالنسبة لقطاع الصحة. حيث للقطاع الخاص دور مهم يضطلع به. لا سيما على مستوى مختبرات البحث و التطوير و إنتاج براءات الاختراع و كذلك على مستوى الاستثمار في إنشاء المؤسسات الاستشفائية. بالمقابل يتمحور دور الدولة حول وظيفتين. من جهة، عليها توفير نظام شامل للتأمين على المرض يشمل كل المواطنين و ضد كل المخاطر الصحية و بدون استثناء. و من جهة ثانية، عليها أيضا ضبط و تسقيف أسعار الأدوية و تكاليف الاستشفاء و الاستشارات الطبية.

Partager:

Ajouter un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée