عادل عميمي: في الحاجة لنظام للرعاية الإجتماعية بالمغرب

مع نهاية سنة ٢٠١٩ أمر العاهل المغربي بإحداث لجنة ملكية لرسم ملامح نموذج تنموي جديد. منذ ذلك الحين و نحن نعيش على إيقاع نقاش مجتمعي موسع حول طبيعة المغرب الذي نتطلع إليه جميعا. غير أنه لا يجب أن نسقط في فخ من يعتقد أنه بصدد إختراع العجلة. نحن مطالبون بالتأمل في ما أنتجته مجتمعات سبقتنا في مسار النمو كما أننا مدعوون إلى قراءة الأحداث و الوقائع الإقتصادية التي عاشها العالم على الأقل في الخمسين سنة الأخيرة.
نهاية الحرب الباردة و انهيار المعسكر الشيوعي حسما النقاش لصالح الإقتصاد الحر و مكنا الغرب، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، من فرض مشروعه المجتمعي و خاصة في شقه الإقتصادي. غير أن المرحلة الممتدة منذ بداية الثمانينيات إلى اليوم أظهرت عيوبا كثيرة تعتري نموذج إقتصاد السوق. توالي الأزمات المالية و الإضطرابات المتكررة، التي عرفتها اقتصادات الدول المتقدمة و الصاعدة على حد سواء، دفعت كبار الإقتصاديين العالميين إلى إعادة النظر في فضائل السوق و قدرته على تأمين التوازن و ديمومة النمو.
إذا كانت الأسواق القائمة على فكرة المنافسة الحرة هي القادرة على توفير أعلى مستويات الفعالية فيما يخص الإنتاج و دفع عاملي الشغل و رأس المال إلى مستويات الإنتاجية الأمثل، فإنها بالمقابل أظهرت خللا كبيرا من ناحية توزيع الدخل و الإستفادة من ثمار النمو.
اليوم، أصبحنا نتحدث عن نموذج ثالث، و هو نموذج الدولة الراعية (providence Etat) حيث يتم الإعتراف بمنطق السوق. و لكن بالمقابل نستدعي تدخل الدولة لإعادة توزيع الثروة. تضمن الدولة الراعية ولوج كل الأسر، و بشكل متساوي، لعدد من الخدمات الأساسية (التعليم، الصحة، التأمين على الشغل، المساعدة الإجتماعية المباشرة … إلخ) و تلجأ من أجل تمويل هذه القطاعات إلى نظام ضريبي قائم بدرجة كبيرة على دخل الأسر كوعاء للتحصيل. و الدعوة إلى هذا النموذج الإقتصادي، ليست دعوة أخلاقية فقط يمليها الحس الإنساني و الرغبة في المساواة. و لكن هي كذلك دعوة قائمة على عدد من الإعتبارات العقلانية و المنطق العلمي السليم و هو الأمر الذي سأحاول إثباته من خلال هذا النص.
في المرحلة الحديثة، من تاريخ الدولة الوطنية، سعى العقل البشري لإنتاج تصور لمجتمع قادر على التعايش السلمي من خلال نظام مؤسساتي و قيمي مستقر و دائم. لذلك كانت فكرة التوازن هي الفكرة المحورية في مجال العلوم الإنسانية و في مجال بناء نظرية الدولة. يتحقق التوازن العام للمجتمع في اللحظة التي يجد فيها كل فرد نفسه غير راغب في تغيير الوضع الذي هو عليه أو بمعنى آخر هي لحظة الرضا العام المولد للتوافق و الإنسجام المجتمعي. من خلال هذا المدخل لفكرة التوازن، لنتساءل إلى أي حد يشكل إقتصاد السوق و غياب نظام مؤسساتي لإعادة توزيع الثروة، خطرا على التماسك الإجتماعي و على توازن المؤسسات السياسية للدولة؟ و لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال، ما هي مظاهر الخلل ذات الطبيعة الإقتصادية في منظومة قائمة على إقتصاد حر لا تؤطره الدولة؟
١ .خلل فادح في التوزيع
تسهر المندوبية السامية للتخطيط على إنتاج و تحيين نظام إحصائي لقياس مستوى الدخل الوطني. الأمر لا يقتصر على حساب قيمة الدخل و لكن يتعداه إلى أسئلة مرتبطة بالتوزيع و الاستعمال و التراكم. الفضل في هندسة نظام للمحاسبة الوطنية، يعود للإقتصادي الأمريكي سيمون كيزنيت و الذي حاز على جائزة نوبل للإقتصاد سنة ١٩٧١. من خلال تتبعه لتغير مستوى الدخل و توزيعه، وضع سيمون كيزنيت نظرية للعلاقة بين النمو الإقتصادي و البنية الإجتماعية و هي النظرية التي يمكن تلخيصها من خلال منحنى كيزنيت.
لنحاول رسم منحنى كيزنيت في السياق المغربي و ذلك منذ سنة ١٩٩٩.
تميز الإقتصاد المغربي، مع بداية الألفية الثالثة، بضعف هيكلي على مستوى قدراته الإنتاجية. من جهة لم تسمح له بنيته التحتية من مجارات إيقاع التجارة العالمية و من جهة أخرى لم يكن للمغرب نسيج مقاولاتي بفعالية إنتاجية مقبولة. في المقابل راكم أفواجا كبيرة من العاطلين و بمستوى تكوين متدني.
في سياق نذرة عنصر رأس المال ووفرة اليد العاملة الرخيصة، بدأ المغرب برامجه التنموية القطاعية. و هو السياق الذي سيمنح الأفضلية للأسر الرأسمالية و الحاصلة تكوين جيد و بلغات عالمية. ذلك أنها ستراهن على نذرة مواردها لتحصيل أكبر نسبة من فائض القيمة. الشيئ الذي سيساهم في تكريس الهوة بين الفئات الإجتماعية على مستوى الدخل.
تتنبأ نظرية كيزنيت بهذا السيناريو غير أنها تؤكد أنه ليس نهائيا. تتواصل الإسثتمارات في مجال البنية التحتية و في تزويد المقاولات بعنصر رأس المال و معه يفقد هذا الأخير إمتياز النذرة لصالح عنصر اليد العاملة. عند هذه اللحظة بالضبط تبدأ الأجور بالإرتفاع و تعود الفوارق في الدخل للإنخفاض.
اتساع فوارق الدخل إذن؛ هو نتيجة عرضية لمسار النمو سرعان ما سيتم معالجتها من خلال نفس ميكانيزمات السوق التي صنعتها، لذى لا حاجة لتدخل الدولة لتصحيح الوضع. كانت هذه هي الخطوط العريضة للعقيدة الإقتصادية لعدد من كبار الباحثين. غير أنه و بالرجوع إلى التجربة الأمريكية تتضح لنا ملاحظتين ستعيدان النظر في فهم كيزنيت ليدنامية البنية الإجتماعية. الملاحظة الأولى تتلخص في كون تقلص الفوارق الإجتماعية الذي لوحظ في سنوات الخمسينات حدث بشكل سريع و مفاجئ و لم يكن نتيجة مسار متدرج و بطيء، الأمر الذي يوحي بكون أن العامل المفسر هو شيء آخر غير ميكانيزمات السوق التي سبق عرضها.
الملاحظة الثانية تتمثل في واقع عودة اتساع الفوارق أواخر سنوات السبعينات بشكل مناقض لتوقعات كيزنيت. بالعودة للوقائع التاريخية يتضح أن هناك حدثا واحدا رافق الهبوط ثم الصعود الذين لوحظ على مستوى فوارق الدخل. هذا الحدث هو ببساطة الضريبة على الدخل. كانت الدولة الأمريكية قاسية على الدخول العليا بمقابل كرم كبير في علاقة بالفئات المتوسطة من خلال مؤسسات للرعاية الإجتماعية.
في سياق السياسة الجديدة التي نهجها روزفلت عقب الكساد الكبير، تم إنشاء نظامي “ميدي كير” و “ميدي كار” الذين يعتبران أيقونتي الرعاية الإجتماعية بالولايات المتحدة الأمريكية. كما تم إقرار معدلات ضريبة وصلت في بعض الأحيان إلى ٩٠% على الشرائح العليا للدخل، هذا بالإضافة إلى الضريبة على الإرث.
كلها أمور عرقلت قدرة بعض الفئات على خلق فارق مهم بالمقارنة ببقية فئات المجتمع. و حتى و لو حدث ذلك فسيكون من الصعب نقل هذا الوضع للجيل الموالي بسبب الضريبة على الإرث. تطورت الأمور للحد الذي جعل بعض المتخصصين يصفون مرحلة الخمسينات بمرحلة التقلص الكبير “compression grande la “مستعيرين بذلك عبارة الكساد الكبير “grande la .”dépression
أواخر السبعينات و مع تصاعد شعبية تيار المحافظين الجدد عرفت الولايات المتحدة الأمريكية مسارا عكسيا. تخلت الدولة عن عدد من الوظائف الإجتماعية، تسارعت وثيرة تحرير الإقتصاد من رقابة الدولة و خصوصا الأسواق المالية، الضرائب عاودت منحى التراجع و سيطر شعار “الدولة هي المشكل و ليست هي الحل”. بالمقابل ستعود الفوارق الإجتماعية للإرتفاع و ذلك عكس توقعات كيزنيت.
هل إقتصر التأثير على ما هو إقتصادي أم تعداه إلى جوانب أخرى ؟ السياسة بدورها لم تبقى بأمن عن ما حدث. تأثير الإقتصادي كان قويا على البنية السياسية للولايات المتحدة الأمريكية. و هو الأمر الذي سأحاول عرضه في الجزء الموالي من هذا المقال.
٢ .دخول تتباعد و فئات تتنافر
يعتبر الاستقطاب السياسي واحدا من المواضيع التي تستأثر باهتمام الباحثين في مجال العلوم السياسية. تتعدد المقاربات لمعالجة الظاهرة و لكن تبقى المنهجية التي اقترحها الباحثين Nolan M.Mccarty و Howard Rosenthal و Keith T.Poole ذات صبغة خاصة و مميزة و ذلك من خلال اقتراحهم لمؤشر نستطيع من خلاله قياس مستوى الاستقطاب السياسي بالولايات المتحدة الأمريكية و بطريقة كمية.
المجال هنا لا يسمح بعرض مفصل لطريقة حساب هذا المؤشر و لكن يمكن بسط فكرة المؤشر بطريقة مقتضبة؛ تمثل الساحة النيابية بالولايات المتحدة الأمريكية حالة خاصة، كونها أفرزت بشكل واضح و مستقر كتلتين نيابيتين تتناوبان على السلطة و ذلك منذ مدة طويلة. من خلال فحص عينة من مشاريع القوانين التي عرضت للتصويت بالكونغرس و تتبع سلوك التصويت يمكننا كشف حالة الإستقطاب بين الكتلتين اللتين تتقاسمان الساحة النيابية بالولايات المتحدة الأمريكية. يكون الإستقطاب حادا في اللحظة التي نلحظ فيها رفض كل عناصر فريق ما التصويت لصالح مشروع قانون يحمل نفحة من أيديولوجية الفريق الآخر.
مثلا، قدم باراك أوباما المشروع الذي سمي إعلاميا بأوباما كير، و حضي برفض كل عناصر الحزب الجمهوري مما يدل على التباعد التام للحزبين في مسألة دور الدولة في الرعاية الصحية للمواطنين. بالمقابل عرض الرئيس الحالي مشروع قانون يسمح بتمويل بناء سور بين الولايات المتحدة الأمريكية و المكسيك لمنع الهجرة السرية و هو قانون ذو نفس محافظ، فكانت النتيجة مشابهة للمثال الأول.
نتائج هذا البحث تكشف ثلاث مراحل عاشتها الولايات المتحدة الأمريكية إبان القرن الماضي و مع بداية القرن الحالي. عاش الأمريكيون على إيقاع تنافر حاد في مرحلة العشرينات، ليتقلص تدريجيا منذ تلك الفترة قبل أن يصل إلى مستواه الأدنى في مرحلتي الخمسينات و الستينات، ثم بعد ذلك سيعاود الارتفاع بعد سنوات السبعينات ليصل إلى مستواه الأكثر حدة في المرحلة الحالية. هو إذن قوس من التوافق السياسي تم فتحه إبان سنوات الحلم الأمريكي و الذي سرعان ما سيغلق في إنتظار ما ستكشفه المرحلة القادمة.
المثير للإنتباه هو حالة التناغم بين منحى تطور الإستقطاب السياسي أمام منحى تطور فوارق الدخل. يرتفعون بشكل متزامن ليعاودا الانخفاض بطريقة متزامنة كذلك. الأخصائيين في مجال الإحصاء يعرفون هذه الظاهرة جيدا و يسمونها بظاهرة الإنحدار (régression). و يفصلونها جيدا عن ظاهرة السببية. غير أنه في الحالة التي نحن بصدد دراستها تتضح جليا العلاقة السببية بين الإستقطاب السياسي و إتساع الدخول بين الفئات الإجتماعية. يعزز تزامن الظاهرتين العلاقة السببية بينهما كما أن أبحاثا ميدانية أخرى جاءت لتعضض هذا الطرح. تأثير مستوى الدخل جد واضح على الإختيار الإنتخابي للناخب الأمريكي. هذا الأخير في حال كان غنيا يعي جيدا كلفة الرعاية الإجتماعية التي عليه تحملها لذا نجد رغبة كبيرة للعائلات الغنية في التأثير على نتائج الانتخابات لصالح منتخبين محافظين. ما يهمنا من التجربة الأمريكية هو هذا الربط المحتمل بين إتساع الفوارق في الدخل و إتساع الهوة بين الأطياف السياسية للمجتمع. بالعودة إلى الحالة المغربية يمكننا إسقاط هذه الخلاصة و لكن بقليل من الحذر و الإنتباه لخصوصية السياق. من الصعب قياس مستوى الإستقطاب السياسي بالمغرب على قاعدة السلوك النيابي، غير أنه من الممكن رصد مظاهر للتنافر المجتمعي و بصيغ أكثر خطورة.
صدر مؤخرا عن المجلس الإقتصادي و الإجتماعي تقرير هو بمثابة مساهمة منه في النقاش حول النموذج التنموي الجديد. في بابه الثالث يخصص الفقرة الأولى للحديث عن استقطاب (polarisation) حاد يميز المجتمع باعتباره (أي الإستقطاب) أحد أعطاب النموذج التنموي الحالي. كما يؤكد على أن هذه الظاهرة ما فتأت تزداد حدة مع الوقت.
يقر المجلس بخطورة الظاهرة و يؤكد أنها سبب في إضعاف الروابط الإجتماعية و في فقدان الثقة في مؤسسات الوساطة. إتساع الفوارق في الدخل جعل هذه الرقعة الجغرافية، المسماة مغرب، تحتضن مجتمعين متباعدين في الإمكانيات المادية و في القيم. من جهة، نجد مجتمعا يتلقى تعليمه بالقطاع الخاص، لغته اليومية هي الفرنسية، أفقه المعرفي هو المنظومة الغربية الحديثة. من جهة أخرى، مجتمع يتزاحم أبناءه على طاولات مهترءة، داخل جدران متهالكة لمدرسة عمومية تتداعى يوما بعد يوم. يتكلمون لغة عربية رديئة و بأفق معرفي هو الشرق العربي الغارق في صراعه الأبدي حول من هو الأحق بالخلافة علي أم معاوية.
الفئة نفسها تتزاحم على وسائل النقل العمومي للقيام بحاجاتها في التنقل، في حين المهمة تكون أسهل على أفراد الفئة الأخرى و هم يستعملون سياراتهم الخاصة.
الأمر نفسه يتكرر عند الحاجة لولوج الخدمات الصحية و كل الخدمات الأساسية. التباعد المجتمعي يتكرس في تفاصيل الحياة اليومية و معه منظومتي قيم تسيران على خطين لا يلتقيان في الأفق بل و تتباعدان أكثر. كوننا لا نتاقسم كمغاربة مقدرات هذا الوطن و قيمه هو شيء بغيض و مؤدي لفكرة الوطنية المغربية.
من زاوية نظر أخرى، قد نجد لهذا التنافر أبعادا و تجليات أكثر حدة و خطورة. قد نجد أناسا يرغبون في ركوب قوارب للموت لأنهم لا يريدون تقاسم تراب هذا الوطن و آخرين يرفعون شعارات متطرفة و انفصالية لأنهم لا يريدون العيش معنا في كنف نفس الدولة. و الأخطر من هذا و ذاك هم أناس يلجؤون للإنتحار لأن تجربة الحياة نفسها لم تعد مغرية بالنسبة لهم. كل هذه العلل نشاهدها و نقرأ عنها كل يوم في صحافتنا و مواقعنا الإجتماعية. كلها تدق ناقوس الخطر و تدعو الدولة لإعادة تصحيح ما أفسده السوق من خلال نظام للرعاية الإجتماعية.
نفق دولة الفئات المتنافرة و إمتياز الوفرة للأقلية، يحيطنا من كل جانب ومعه تهديد بعدم الإستقرار و غياب للتماسك الإجتماعي. غير أن لهذا النفق أفق يطل من خلاله نور للأمل. الخطب الملكية منذ ٢٠١٨ توحي بنوع من الوعي لدى صانع القرار بخطورة الفوارق الإجتماعية و مع هذا الوعي تبرز إرادة تصحيح الوضع.
الخطاب الملكي الأخير خطا خطوة إلى الأمام و ذلك بأن إبتعد شيئا ما عن مستوى التنظير و الدعوة إلى القيام بالأبحاث و الدراسات نحو المطالبة ببرنامج لتنزيل مشروع شامل للرعاية الإجتماعية. السؤال اليوم هو عن أي رعاية نتحدث. ما هي آليات التمويل التي سنعتمدها و ما هي قنوات الإنفاق التي ستصرف من خلالها.
الجواب عن هذا السؤال سيحتاج عرضا مفصلا و إطارا تحليليا سيكون موضوع مقال لاحق.
مهندس الدولة عادل عميمي
خريج المعهد الوطني للاحصاء و الاقتصاد التطبيقي