Articles

رضوان أستو: الهندسة المغربية، إلى أين؟ [2014]

مقال نشر في مدونة كاتبه الشخصية يومه 18 يناير 2014 و نعيد نشره للتسائل عن راهنية السؤال و تطور الإجابات

author_img

شهدنا منذ عقود توالي الأزمات في قطاع الهندسة الوطنية و تسارعه نحو الحضيض. كما سجلنا عدم اكتراث السلطات الوصية على القطاع لمآل الآلاف من خريجي مؤسسات التكوين الهندسي أو لصورة البلد أمام منتظم دولي صارت لغته الموحدة هي التطور و التنافس نحو الريادة في شتى الميادين.

و بما أن الهندسة هي صلب و أساس التطور المجتمعي. فإن التنافس كان و ما يزال و سيبقى مختزلا، و لو بنسب متفاوتة، في مدى تمكن الأنظمة من التقنية و حسن تدبيرها و تسخيرها لفائدة رفاهية الشعوب و استمرار بناء صرح حضارتها.

لقد أنجبت مؤسسات التكوين الهندسي الوطنية أسماء وازنة، تركت بصمات خالدة في تاريخ الوطن و العالم كافة. أسماء لمعت في العديد من الميادين بما فيها السياسي. إلا أننا نلاحظ منذ أواخر القرن الفارط، خفوت راية المهندس المغربي و عدم بروز أعلام شابة قادرة على مواصلة مشوار التميز و رفع مستوى الهندسة المغربية إقلميا و دوليا.

و لمن المخزي أن تختزل مشاكل الهندسة الوطنية و تحسين مكانتها في مبادرة يتيمة ترفع بشكل عشوائي من أعداد خريجي المدارس الهندسية إلى 10.000 في أفق سنة 2010 ثم 15.000 في أفق 2015 و 20.000 في أفق 2020. كما لو كنا في سباق تسويقي لمنتوج استهلاكي يقرن نجاحه بإصدار لوحات إشهارية جذابة.

فالخصاص في عدد المهندسين بالمغرب شئ محسوم و لا يختلف فيه اثنتان. إلا أن السؤال الأرجح طرحه هو “عن أي مهندس نبحث؟” عن مهندس كفؤ، مبدع و منتج؟ أم عن عامل تقني عالي التخصص؟ فكل مشروع غير مقرون بهدف دقيق هو مشروع فاشل و عبثي. و الخلط بين المفاهيم أو تعمده لا يزيد الأمر إلا ضبابية و تعقيدا. و كل هاته الصفات ليس بالمناسب استخدامها لتقييم مشروع وطني بحجم مشروع تأهيل الكفاءة الوطنية عموما و الهندسة خصوصا.

و أتذكر جواب أحد السادة وزراء حكومة عباس الفاسي عندما طُلب منه رأيه بخصوص التدهور المسجل في مستوى خريجي مؤسسات التكوين الهندسي الوطنية خاصة بعد إطلاق مبادرة 10.000 مهندس و مماثله في أفق سنة 2010. حينها أقر السيد الوزير أنه من الطبيعي تراجع جودة تكوين المهندسين نظرا للعديد من الاعتبارات الموضوعية. كما أكد أن المقاربة الكمية تحظى عند الدولة بالأولوية تجاوبا مع إقبال المغرب على استقطاب مهن عالمية. و أضاف بأننا في حاجة ماسة و في أقرب الآجال لكفاءات تقنية ذات كلفة تنافسية تسد خصاص الشركات الدولية المقبلة على الاستثمار ببلدنا و في مهن جديدة.

جواب استنكره جميع المهندسين. و لم يسجل حينها أي موقف رسمي لممثليهم إزاءه. و ذلك نظرا لغيابهم التام عن الساحة السياسية. فقد كانت جمعية الاتحاد الوطني للمهندسين في حالة سبات دام زهاء 14 سنة حينها. و كانت نقابة المهندسين فتية و ما زالت تخوض صراع الوجود. و كانت جمعيات خريجي مؤسسات التكوين الهندسي، غير قادرة على الإضطلاع بالأدوار المنوطة إليها. فعدا شبكة مهندسي المدرسة المحمدية و شبكة مهندسي كبار المدارس الفرنسية، لم ينجح باقي الخريجين من خلق لوبيات قوية. و بالتالي فقد استعصى عليهم تجميع صوتهم من أجل الدفاع عن قضاياهم المشتركة و على رأسها تأهيل الهندسة الوطنية.

إن إدراك الأجهزة الوصية لهذا الواقع التنظيمي الهش للمهندسين. و إسهامها بشكل مباشر أو غير مباشر في إبقاء الوضع على ما هو عليه. سهل لها أن تستبيح و تنفرد بتحديد مصير الهندسة الوطنية. و خير دليل على ذلك، هو الرفض الكتابي الموجه من طرف السيد الوزير الأول عباس الفاسي للرئيس المؤسس لنقابة المهندسين. بعد أن قدم هذا الأخير طلبا باسم ائتلاف جمعيات خريجي المؤسسات الهندسية الوطنية من أجل خلق هيئة وطنية للمهندسين المغاربة.

هيئة تعمل على حماية المواطن من الدخلاء على المهن الهندسية. و تضمن جودة الخدمات المقدمة له. و تحرص على جودة التكوين الأساسي و المستمر للمهندس المغربي. و قد كان الرفض بذريعة استحالة تجميع كل المهن الهندسية داخل هيئة واحدة. جواب يعبر عن تجاهل الأجهزة الوصية لنجاح العديد من الدول في ذلك. و التجربة التونسية و الأردنية و الإسبانية و البرتغالية و الكندية أمثلة حية لواقعية الطلب المقدم و رجاحته.

إن مبادرة 10.000 مهندس في أفق 2010 هي مثال غني و يجب الوقوف مليا عنده. فقد سبق و عبرت الجمعية المغربية للمهندسين الشباب ,حين إطلاق المبادرة سنة 2006, عن قلقها إزاء طريقة برمجة و تسيير المبادرة. و حذرت من الآثار السلبية الأكيد ظهورها على المدى القريب و المتوسط.. خاصة فيما يتعلق بتدهور مستوى التكوين و تدني قيمة الدبلوم و تفاقم بطالة الخريجين و تدني أجورهم و تطاول فئات أقل تكوينا و كفاءة على المهن الهندسية.

لم يأخذ هذا التحذير على محمل الجد. رغم تبني نقابة المهندسين المغاربة و بعدها جمعية الإتحاد الوطني لنفس الموقف. و تضمينهما لهذا الشق داخل ملفيهما المطلبيين المقدمين للحكومة سنة 2008. بل و تم الإعلان سنة 2010 عن نجاح وزارة التربية الوطنية و التعليم العالي و البحث العلمي في تكوين 11.400 مهندس و مماثله سنة بدل 10.000 المبرمجة. أي تم تجاوز الهدف بنسبة 14 في المائة. و لم يتم التسائل قط، و إلى الآن، عن قدرة الإدارة المغربية و النسيج الاقتصادي الوطني على استيعاب كل هاته الأعداد. فما خشيه المهندسون المغاربة آنذاك هو تحويل مؤسسات تكوينهم من مصانع تميز و نجاح إلى مصدر للبطالة و هذا بالضبط ما نعيشه حاليا.

أعداد هائلة من المهندسين المعطلين نزلوا إلى الشارع و انضموا إلى التنسيقيات المرابطة أمام البرلمان. وطالبوا بدورهم، بإدماجهم المباشر بأسلاك الوظيفة العمومية بعد يأسهم من أمل الالتحاق بالقطاع الخاص. و هو سلوك أشر عن تحول جوهري في سلوك المهندس المغربي و أعلن عن تشكل فئة مناضلة قد تستغل كأداة لإحراج الحكومة و المس بصورة المغرب دوليا كبلد سائر في طريق النمو.

فإهدار كفاءات مثل هذه ما هو إلا مؤشر واضح لسوء تدبير الموارد البشرية و عدم ملائمة برامج التكوين لحاجيات سوق الشغل. أو بشكل آخر ما هو إلا مؤشر واضح لفشل الأجهزة الوصية في قلب قاعدة “العرض الذي يخلق الطلب” كما سطرت حين اطلاق المبادرة.

و في انتظار إنجاز تقييم رسمي و واقعي لحصيلة المبادرة الأولى. فإن جميع فاعلي الحقل الهندسي الوطني متفقون على افتقار المبادرة لمقومات النجاح. حيث اعترى التسرع كل مراحلها، و لم يحترم انجازها أدنى قواعد هندسة التكوين المعترف بها دوليا. بل كانت السبب الرئيسي في تسريع وثيرة تدهور القطاع الهندسي نظرا لتضاعف أعداد الخريجين في وقت قياسي و دون الاكتراث لجودة تكوينهم. و فتحت الأبواب على مصراعيها أمام المدارس الخاصة لتكوين مهندسين دون معادلة دبلوماتهم. و تم توزيع دبلوم مهندس على المجازين و على حملة الماستر و خريجي بعض المدارس الأجنبية و حملة باك+3 بعد متابعتهم لتكوينات تأهيلية لمدة ستة أشهر. و لا ندري من تم إدماجه أيضاً في هذا الحصيص. لكي يُخلص إلى نجاح المبادرة و لزوم تحيينها قصد تكوين 15.000 مهندس و مماثله في أفق 2015.

إن مشاكل الهندسة الوطنية هي أعمق و أعقد من أن تختزل في مقاربة عددية و انفرادية. إنها مشاكل تراكمت عبر عقود و يستلزم فكها إجراء دراسة معمقة للشأن الهندسي بالمغرب. تبدأ بوضع تشخيص دقيق للحقل الهندسي الوطني و الدولي. و يستقرء فيها رأي المهندسين في وضعيتهم و حال مهنهم. و تتبنى منهجية تشاركية في تحليل المعطيات المجمعة و في وضع أسس منظومة إصلاح شمولية و متكاملة. و غير هكذا، فلن نستطيع استخلاص برنامج عمل ناجع و ستبقى كل المبادرات ترقيعية و ما تزيد الطين إلا بلة.

إلا أن إطلاق مثل هاته الأوراش الإصلاحية العميقة يتطلب أولا و قبل كل شيء، تواجد إرادة سياسية فعلية. و الإرادة السياسية تنبثق عن حقيقتين: توفر المطالب على لوبي مؤثر يتبناها أو على شرعية شعبية ترضخ لها صناع القرار. و ما دام المهندس يسبح في فلك بعيد عن هاتين الحقيقتين، فإنه يرهن مستقبل الهندسة الوطنية للمجهول و سيبقى إطارا تقنيا و تنفيذيا يقبع تحت و صايات لن تستجيب أبدا لمطالبه المشروعة. فـفتح المجال أمام الكفاءات الوطنية له ثمن لم يستعد بعد المتاجرون بالوطن دفعه.

و أول المشوار خطوة؛ خطوة وجب على كل المهندسين وضعها من أجل تحسيس المجتمع بأهمية الهندسة في أبسط تحركاته و بأن تأهيلها هو ضرورة و ليس ترفا يطالب به المهندس لخدمة مصالحه الشخصية.

ما يستوجب على المهندس القيام به، هو العمل الجماعي من أجل نشر ثقافة “الهندسة المواطنة ” أو بتعبير آخر العمل على تكريس “هندسة القرب “. فليس من المنطقي أو المقبول، أن تظل الصورة الراسخة للمهندس في المخيلة الشعبية مرتبطة سلبا بذاك التلميذ الذكي المنعزل عن حيه و صانع الصواريخ، ثم الفاسد إداريا إن أشرف على مشاريع الدولة. أو الوصولي إن اشتغل بالقطاع الخاص. أو المقاول المتغطرس و المادي إن خلق مقاولته. يجب تصحيح هاته الصورة و محاربة مروجيها بحزم و فعالية.

كما يجدر بالمهندسين الغيورين على الهندسة الوطنية مواجهة واقع مجتمع يفضل أفراده استدعاء حرفي من موقف العمال قصد إنجاز أوراش البناء على استدعاء مهندس أو مقاولة مختصة. مواجهة واقع لا يعترف بالشركات المهنية، و يسمح لكل من هب و دب من فتح مكتب دراسات و شركات خبرة هندسية و يزكيها بمنحها طلبات عروض مشاريع الدولة المهيكلة.

و ما هذه إلا أمثلة من العديد من المغالطات التي تبعد المواطن عن الهندسة. فيعتبرها موضوعا ثانويا لا يعنيه. و لا يتفاعل إيجابا مع مطالب القطاع التي يعتربها ضده، كما حدث مع الصيادلة. و هو تطور طبيعي لإغفاله قصرا، بأن تطور مستوى معيشته رهين بقدرة الهندسة الوطنية على مواكبة التطور العلمي و الاستجابة لحاجياته.

مهندس الدولة رضوان أستو
فاعل جمعوي و نقابي

Partager:

Ajouter un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée