محمد الراوندي: تكوين المهندسين، نموذج آخر لإفلاس التعليم العالي بالمغرب [2018]
مقال منشور عبر الأنترنيت يومه 12 ماي 2018 لكاتبه المهندس محمد رويندي
شهد التعليم العالي بالمغرب سلسلة تراجعات مهولة رمت به إلى الحضيض. فلم يعد أحد، بما فيها الجهات الحكومية الوصية، يجادل فيما يعرفه هذا القطاع من تدهور وإفلاس لم تنفع معه البرامج الاستعجالية والميزانيات الاستثنائية من إخراجه من غرفة الإنعاش. ولئن كان هذا الحال جليا وواضحا للعيان في الجامعات العمومية، فالتكوين في المعاهد والمدارس ذات الاستقطاب المحدود بات على نفس المنوال ولم يعد يشكل ذلك الاستثناء الذي يسمو إليه التلامذة المجدون.
فعلى سبيل المثال، كان شكل الولوج إلى المدارس العليا للمهندسين في الماضي علامة بارزة لدى الأسر وفي المجتمع قاطبة لما كان ينتظر التلميذ من تكوين جيد ومستقبل زاهر وآفاق واعدة. فكان بذلك التكوين الهندسي العمومي ملجأ للمجتهدين والنوابغ وقاطرة للترقي الاجتماعي وخصوصا لدى الفئات المتوسطة والفقيرة. إلا أن السياسات التي اتبعت فيه بعد ذلك عملت على سحقه وتفريغه من عناصر الجودة والكفاءة والاستحقاق التي شكلت دوما رمزا ومنهجا لتكوين المهندسين. وهو ما نتج عنه مجموعة من الظواهر المشينة من قبيل فتح مسالك للتكوين الهندسي لا تتوفر فيها وفي مؤسساتها الحاضنة أي مقومات لتكوين المهندسين، وتوالي مسلسل الإضرابات في صفوف الطلبة المهندسين، ثم الزج بالخريجين في مستنقع البطالة لانتفاء الحاجة أو الكفاءة.
ويمكن إجمال الأسباب التي أدت بالتكوين الهندسي العمومي بالمغرب إلى هذه الحالة المتردية التي توشك أن تعلن عن إفلاسه إلى العناصر الخمسة التالية:
أولا: تكوين المهندسين ضحية أرقام مبادرات الدولة
شكل مشروع تكوين 10000 مهندس في أفق 2010 ثم ما تلاه من مبادرات عددية مماثلة نقطة تحول محورية في مسار التكوين الهندسي بالمغرب. فقد كشفت هذه المشاريع عن التوجه الكمي الصرف للجهات الوصية على تكوين المهندسين بعيدا عن طرح مقاربة شمولية وواضحة المعالم تأخذ بعين الاعتبار الحاجيات الحقيقية للاقتصاد الوطني وخصوصيات التكوين الهندسي. لذلك ألزمت الحكومة المدارس العليا للمهندسين بالزيادة باستمرار وعلى مدار سنوات في عدد التلاميذ المقبولين، ما نتج عنه اكتظاظ مهول للطلبة داخل هذه المؤسسات دون أن يواكب ذلك تطور نوعي في الإمكانيات البشرية واللوجستية والمادية. فكانت النتيجة الحتمية تدهور مطرد في مستوى التدريس والتأطير والتأهيل، وتردٍّ فظيع للبيئة المجالية والمعيشية للطالب المهندس. من جهة أخرى أقدمت الحكومة على فتح مسالك هندسية داخل الكليات وبمدارس تابعة للجامعة دون أن توفر لها الحد الأدنى من الوسائل والطاقات (أساتذة متمرسين، خبراء ملمين بالواقع الهندسي، مختبرات، زيارات ميدانية…) ما جعل هذه التكوينات تصب في نفس التخصصات ويطغى عليها الجانب النظري التجريدي.
هكذا أنتجت السياسة الهادفة للرفع من بعض مؤشرات التنمية (عدد المهندسين لكل ألف نسمة) والاستجابة للحاجيات المفترضة لبعض البرامج القطاعية، البحث عن تضخيم عدد المهندسين الخريجين بأي شكل كان، فغلب الكم على الكيف وضاعت مهنة الهندسة بين الاكتظاظ وسوء التكوين.
ثانيا: التكوين الهندسي ضحية سياسة التخبط العشوائية للحكومة
أنشئت مؤسسات التكوين الهندسية بغرض الاستجابة لحاجيات سوق الشغل. لذلك سارعت جل القطاعات الإنتاجية الى تأسيس معاهد لتكوين الأطر المتخصصة في مجال عملها. إلا أنه مع انتفاء الحاجة أو لمحدودية إمكانية التشغيل لدى هذه القطاعات، كان لزاما على المعاهد تنويع عرضها التكويني وإعادة تحديد موقعها. غير أن هذا الإجراء تم في غياب رؤية استراتيجية موحدة وشاملة تضمن الفعالية وتحقق المقاصد. لذا طرحت الجهات الحكومية الوصية سلسلة من المبادرات الأحادية والمتناقضة أحيانا والتي تروم تارة دمج المؤسسات الهندسية أفقيا (مشروع الأقطاب التكنولوجيا بالرباط والدار البيضاء) وتارة تجميعها مع أخرى عموديا (مشروع دمج المدارس الوطنية للعلوم التطبيقية مع كليات العلوم والتقنيات والمدارس العليا للتكنولوجيا) وتارة أخرى بإلحاق المعاهد الهندسية الغير التابعة للجامعة بالجامعة الأقرب (مشروع إلحاق مدارس المهندسين بجامعة الرباط والدار البيضاء). غير أن أيا من هذه المبادرات لم تطبق فعليا إما لغياب المسوغ لتنزيلها أو لرفض المعنيين لها.
أما فيما يخص مسالك التكوين الهندسي فقد عرف هو الآخر مجموعة من المشاكل أهمها غياب مرجع وطني يضبط مجالات التكوين وشروط فتح مسالك جديدة، الشيء الذي أفرز تكوينات يغلب عليها خصوصيات الظرف الآني والتوجه بالتالي نحو نفس التخصصات (المعلوميات مع بداية 2000، الهندسة المدنية مع الطفرة العقارية، الطاقات المتجددة…). ورغم محاولة القطاع الوصي على التعليم العالي استدراك هذا الأمر بوضع مسطرة تلزم المؤسسات بطلب اعتماد وترخيص المسلك قبل فتحه وفق دفتر مرجعي إلا أن هذا الإجراء لم يتجاوز البعد الشكلي لعدم وجود رؤية استراتيجية واضحة ولاقتصار فتح مسالك جديدة في غالب الأحيان على مبادرات فردية لبعض الأساتذة او الشعب.
ثالثا: التكوين الهندسي ضحية ضعف البنية الاقتصادية الوطنية
لا يكمن المشكل الرئيسي في عدد المهندسين المكونين، فهذا الرقم يعتبر ضعيفا بالمقارنة مع الدول المتقدمة وحتى بعض الدول العربية كتونس والأردن، وإنما في طريقة وجودة التكوين الهندسي ومدى قدرة الاقتصاد الوطني على استيعاب الخريجين. فالملاحظ في هذا الصدد هو ضعف النسيج الإنتاجي وقلة امكانياته وقدرات تطوره الأمر الذي يجعل الطلب على الموارد البشرية ذات التأهيل العالي جد محدود. بالمقابل يلاحظ اعتماد تهيئة وإنجاز المشاريع والأوراش الكبرى وخصوصا ذات البعد التقني والتكنولوجي على كفاءات أجنبية بحجة غياب الخبرات التخصصية المغربية. هذه المفارقة هي إحدى تجليات الفجوة الكبيرة بين التكوين الهندسي ومتطلبات سوق الشغل والتي تتسع باستمرار. فكان من نتائجها تخمة في العرض واستفحال لمشكل بطالة المهندسين.
رابعا: التكوين الهندسي في قلب اقتصاد الريع
عرفت مؤسسات التكوين الخاصة ذات الصلة بالهندسة نموا مطردا خلال السنوات الماضية؛ فحسب إحصائيات الوزارة الوصية لسنة 2016/2017 انتقل عدد الأقسام بمؤسسات الأقسام التحضيرية الخصوصية إلى 290 قسما مقابل 259 قسما بنظيرتها العمومية. في نفس الوقت تناسلت التكوينات الهندسية بعدد من المدارس والمعاهد والكليات الخاصة على طول البلد إذ بلغ عدد التلاميذ المسجلين بأحد مدارس المهندسين الخصوصية حسب الإحصائيات الرسمية لسنة 2015/2016 ما يناهز 3500 طالب وهو ما يؤكد الجانب الربحي لهذا النوع من الاستثمار الذي شجعته الدولة عبر سلسلة من الإجراءات كان آخرها الاعتراف بالشهادات الممنوحة من طرف التعليم الخصوصي ومعادلتها للشهادات العمومية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار مستوى التلاميذ الذين يلجون هذا النوع من المعاهد وضعف تجهيز مختبراتها في الغالب واشتغالها أساسا بالموارد البشرية العاملة بالقطاع العمومي تتضح نوعية التكوين الهندسي الممارس داخل هذه المؤسسات وحجم الريع الذي يسود هذا القطاع الذي تغلب عليه المقاربة التجارية المحضة على المنهجية العلمية والبيداغوجية.
مسلسل الريع الهندسي لا يقف عند هذا الحد فمجال التكوين المستمر داخل الجامعات وخصوصا بالتكوينات الشبه هندسية (دبلوم ماستر علوم الخاص بالجامعات) يغوص في مستنقع الفوضى والتسيب ويتسبب هو الآخر في إغراق السوق بخريجين ينافسون المهندسين في نطاق تخصصهم. أضف إلى ذلك ما سمي بمؤسسات الشراكة (عمومي-خصوصي) التي أحدثتها الدولة خصيصا لبعض أرباب الريع وسخرت لها إمكانيات مهمة من المال العام في سبيل إعادة انتاج وتوريث النخب.
خامسا: التكوين الهندسي ضحية تغول البيروقراطية وضعف الحكامة
نتج عما تعرفه مؤسسات تكوين المهندسين العمومية من تكديس للطلبة وقلة الإمكانيات، اعتماد تسيير يرتكز أساسا على تدبير الإكراهات والأولويات اليومية بهدف تحقيق السلم الاجتماعي داخل المؤسسة، وهو ما نجم عنه تشكل منظومة شبه استقرار مبنية على مبدإ غض الطرف بين مختلف الفاعلين (إدارة-أساتذة-طلبة). فكل طرف يتغاضى عن بعض حقوقه مقابل تنازل الطرف الآخر عن إلزامه بالقيام بواجباته. وأي خلل في منظومة التواطؤ هذه يولد مباشرة جوا من الاحتقان والتذمر غالبا ما يعبر عنه بسلسلة من الإضرابات والاحتجاجات التي تعرفها هذه المؤسسات من حين لآخر.
فأمام هذه الوضعية وبإزاء مقتضيات القانون المنظم لمؤسسات التعليم العالي (قانون 00-01)، تجد معاهد تكوين المهندسين نفسها مكبلة بسلسلة من المساطر البيروقراطية والتعقيدات الإدارية ناهيك عن محدودية الكفاءة التدبيرية لأغلب مدراءها، مما يدفعها للاستسلام لإكراهات الواقع وتنصرف لتدبير الندرة وتنفض الطاقات والعقول من حولها بحثا عن فضاء أرحب وأكثر مردودية. إذاك لا مجال للحديث عن الحكامة والتطوير والبحث والإبداع والاختراع.
إن الحديث عن مآل تكوين المهندسين الذي كان بالأمس القريب تكوينا نوعيا ونخبويا واستعراض أوجه الرداءة التي تمس مختلف جوانبه لا ينفي بأي حال ما يزخر به هذا المجال من مميزات، لعل أهمها هو جودة ونوعية زمرة من التلاميذ الذين يلجون هذا التكوين، والذين لا يتوانون يبرهنون عن إمكاناتهم العالية وقدراتهم الرفيعة كلما سنحت لهم الفرصة بذلك سواء من خلال المسابقات الدولية أو من خلال نبوغ طرف منهم في ديار المهجر. هذه المادة الخام من العنصر البشري، لو أرادت الدولة استخدامها لأغناها عن البحث عن الموارد الطبيعية ولحقق لها نهضتها الاقتصادية كما فعلت دول التنينات الأسيوية.