ينبني تقييم السياسات العمومية على خمسة عوامل رئيسية: مستوى تحقيق الأهداف، وجاهتها، تناسقها، فعاليتها و نجاعتها. و تبعا لهاته المنهجية العلمية و نظرا لاهتمامنا بقضايا الهندسة المغربية، فقد انطلقنا إلى فحص برنامج حكومة د.سعد الدين العثماني (الأهداف)، ثم تعمقنا في مخططه التنفيذي (الوجاهة و التناسق) و تابعنا إنجازه عبر التدقيق في تقارير المجالس الحكومية المنعقدة طيلة هاته الولاية التشريعية (الفعالية و النجاعة).

وقد خلص هذا البحث إلى مخرجات تمت صياغتها في مسودة تبادلها ثلة من خيرة المهندسين الناشطين نقابيا و سياسيا و جمعويا منذ شهر غشت 2021 الصارم و تجنبنا نشره حتى استيفاء انتخابات 8 شتنبر 2021. فهدفنا الأسمى هو تقديم تقرير موضوعي للمهتمين بالهندسة الوطنية و محاولة انقاذ ما يمكن انقاذه. ولكن بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة التي لطالما عصفت بآمال المهندسات و المهندسين المغاربة. و تجدون طيه ملخصا لأهم ما ورد فيه:

على مستوى البرنامج الحكومي:

تطبيقا لمقتضيات الفصل 88 من دستور المملكة المغربية، تقدمت حكومة د.سعد الدين العثماني ببرنامج الولاية التشريعية 2016-2021 في أبريل 2017. و قد بني هذا الأخير على خمسة محاور، أدرج ملف التعليم العالي في الرابع منها. وهو المخصص لتعزيز التنمية البشرية والتماسك الاجتماعي والمجالي.

و إنه لمن المؤسف أن نسجل غياب رؤية أو موقف خاص بتطوير الهندسة المغربية لدى هاته الحكومة رغم ضمها لوزراء مهندسين و ارتكازها على الكفاءات الهندسية لتحقيق الأهداف المسطرة و إنجاز الدراسات و المشاريع في شتى المجالات. وإنصافا منا و بناء على ما تطرق له المهندس « رضوان أستو » في مقاله المنشور في الخامس من شهر شتنبر 2016 تحت عنوان: « LE MANDAT BENKIRANE OU LES 5 ANS DU DÉCLIN DE L’INGÉNIERIE NATIONALE « ، فلم يسبق لحكومة ذ. عبد الإله بنكيران أو لسابقاتها أن أدرجت هذا الملف ضمن برامجها و أولوياتها.

فحتى « مبادرة تكوين 10.000 مهندس أو ما يعادله في أفق سنة 2010 » التي أطلقتها حكومة إدريس جطو الأولى سنة 2006 لم يتعدى سقفها الرفع من أعداد خريجي مؤسسات التكوين الهندسي و مماثليهم (الماستر التقني و الإجازة التقنية) و فتح باب التكوين العالي أمام القطاع الخاص. أي أن هاته المبادرة اقتصرت على مقاربة كمية رامت إلى توفير عمالة تقنية كان من المنتظر أن تواكب ورش ترحيل الخدمات إلى المغرب و بأسعار أكثر تنافسية. و للتذكير، فلم نتوصل لغاية الآن بتقرير يقيم و يفصل نتائج هاته المبادرة بعد أن تم الإعلان عن نجاها و تخرج 10.400 مهندس وما يعادله في الأفق المحدد.

ولكي نكون أكثر إنصافا، فقد تضمن برنامج حكومة العثماني المتكون من 90 صفحة كلمة « هندس » لمرة واحدة و وحيدة و قد ارتبطت بمشروع استكمال تعميم التغطية الصحية لتشمل أصحاب المهن الحرة (الأطباء، والموثقون، والصيادلة، والمحامون، والمهندسون المعماريون، إلخ ). ومن باب التدقيق، فإن مهنة الهندسة المعمارية ورغم تكاملها مع العديد من المهن الهندسية فهي ليست بابا من أبواب هاته الأخيرة. و سنتطرق لهذا الموضوع في مقال مفصل و نقتصر حاليا على إثارة انتباه القراء بأن هناك فرقا شاسعا بين المجالين « architecture » و « ingénierie« .

على مستوى المخطط التنفيذي للبرنامج الحكومي:

لقد تمت ترجمة البرنامج الحكومي إلى مخطط تنفيذي تضمن 435 إجراء. و هو ما يمكن من تتبع و تقييم التزامات الحكومة على طول الولاية التشريعية. و بعد اطلاعنا على كل هاته الإجراءات، فقد تأكدنا ، فعلا و بالملموس، من غياب أي إجراء يمكننا من تطوير الهندسة الوطنية و تجويد التكوين و ملائمته مع رؤية الحكومة المتعلقة بتطوير النموذج الاقتصادي و النهوض بالتشغيل و التنمية المستدامة.

كما لاحظنا إقحام مصطلح الهندسة في العديد من الأماكن التي لا تمت بصلة للمهن الهندسية المتعارف عليها دوليا و تاريخيا. و إنما تندرج في باب الزينة و تنميق المسميات، و نذكر منها:

1- الإجراء رقم 254:

• إعداد و اعتماد الإطار لهندسة المنهاجية التربوية حسب أنواع الإعاقات
• تنزيل الهندسة المنهاجية البيداغوجية لفائدة التلاميذ في وضعية إعاقة، بأقسام التأهيل المدرسي والتعليم الابتدائي

2- الإجراء رقم 257:

• تجديد الهندسة البيداغوجية للتعليم العتيق

3- الإجراء رقم 259:

• تنزيل الهندسة اللغوية الجديدة و دعم التمكن من اللغات
• تحضير هندسة جديدة لشعب سلك التعليم الثانوي التأهيلي

4- الإجراء رقم 262:

• هندسة تكوين الأطر التربوية في علاقتها بتوظيف الأساتذة بموجب عقود

5- الإجراء رقم 270:

• إعادة تسكين مؤسسات التعليم العالي بالجامعات و إحداث مؤسسات أخرى وفق الهندسة الجهوية الجديدة

على مستوى المجالس الحكومية:

عقدت حكومة د.سعد الدين العثماني مجلسها الأسبوعي بشكل دوري كل يوم خميس منذ تنصيبها. وكما تنص القوانين و الأعراف، تنشر الأمانة العامة للحكومة جداول أعمال و تقارير هاته المجالس عبر بوابتها الالكترونية. و بعد الاطلاع على المحتوى الغني لهاته البوابة، فقد تمكنا من إحصاء ثلاثة و ثلاثين (33) نقطة تخص الهندسة بشكل عام و التي تم إدراجها بجداول أعمال مجلس هاته الحكومة. منها 26 قرار تعيين في مناصب رئاسة مؤسسة تكوين هندسي و 4 قرارات تهم الهندسة المعمارية وليس الهندسة كما سبقت الإشارة إليه. و نوافيكم طيه بتفاصيلها:

I- فيما يخص الهندسة المعمارية:

1- الخميس 15 يونيو 2017:

• • • تدارس مشروع مرسوم رقم 99-17-2 بتغيير المرسوم 66-93-2 تطبيقا للقانون رقم 89-016 المتعلق بمزاولة مهنة الهندسة المعمارية وإحداث هيئة المهندسين المعماريين الوطنية. و الذي يهدف إلى « تحيين مناطق اختصاص المجالس الجهوية لهيئة المهندسين المعماريين، وذلك بما يكرس سياسة القرب وييسر انفتاح فئات المهندسين المعماريين على مختلف المتدخلين في مجال التعمير، بغاية تحسين جودة المنتوج المعماري الوطني لإطار عيش المواطنين، وتحقيق توزيع متوازن للمهندسين المعماريين على مختلف مناطق التراب الوطني. »

• • • المصادقة على قرار استبدال تسمية مدرسة الهندسة المعمارية بالدار البيضاء بالتسمية الجديدة المدرسة العليا للهندسة المعمارية بالدار البيضاء.

2- الخميس 20 يوليوز 2017:

تدارس مشروع مرسوم رقم 99-17-2 بتغيير المرسوم 66-93-2 تطبيقا للقانون رقم 89-016 المتعلق بمزاولة مهنة الهندسة المعمارية وإحداث هيئة المهندسين المعماريين الوطنية.

3- الخميس 19 نونبر 2020:

تدارس مشروع مرسوم يتعلق بنظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض والقانون المتعلق بإحداث نظام للمعاشات الخاصين بفئات المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا، فيما يتعلق بالمهندسين المعماريين.

II- فيما يخص التكوين الهندسي :

1- الخميس 28 يونيو 2018:

تطوير الإجراء الذي تم اتخاذه خلال السنة الدراسية 2017-2018 و القاضي بالزيادة في عدد المقاعد البيداغوجية المخصصة لمؤسسات التعليم العالي ذات الاستقطاب المحدود )كليات الطب، كليات ومدارس الهندسة، مدارس التسيير،..) بنسبة 20 %، انطلاقا من السنة الجامعية 2018-2019.

2- الخميس 28 نونبر 2018:

تنويه رئيس الحكومة بمساهمة كفاءات مغربية من مهندسين وغيرهم في إنجاز مشروعي القطار الفائق السرعة و إطلاق القمر الصناعي « محمد السادس ب ».

3- الخميس 13 فبراير 2020:

المصادقة على مشروع مرسوم رقم 2.18.911 بتطبيق القانون رقم 39.13 بإعادة تنظيم المدرسة الحسنية للأشغال العمومية، تقدم به السيد وزير التجهيز والنقل واللوجستيك والماء. ويهدف إلى تمكين المدرسة من تحيين هياكلها التأطيرية والتنظيمية على مستوى الشهادات المسلمة، وكذا من مسايرة الإصلاح العام للتكوين الوارد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين.

4- الخميس 19 نونبر 2020:

المصادقة على مشروع مرسوم يتعلق بتنظيم المباراة الوطنية لولوج بعض مؤسسات تكوين المهندسين والمؤسسات التي في حكمها والمباراة الوطنية لولوج مؤسسات التكوين في التجارة والتدبير على غرار ما هو معمول به في المباراة الوطنية لولوج بعض مؤسسات تكوين المهندسين.

III- التعيينات على رأس مؤسسات التكوين الهندسي

و كما سبقت الإشارة، فطبقا لأحكام الفصل 92 من الدستور فقد قامت الحكومة بتعيين زهاء 26 مدير مؤسسة تكوين هندسي خلال هاته الولاية التشريعية. بشكل آخر، مست هاته التعيينات ثلثي هاته المؤسسات العمومية (25 من أصل 38) مما يدفعنا للتساؤل عن الأسباب الكامنة خلف هاته الرجة: أهي تصريف إرادة سياسية للنهوض بالتكوين الهندسي، أم أنها مجرد تدابير عادية تستجيب لإكراهات التدرج المهني للأطر العليا المنتمية للقطاعات الوصية؟

أزمات القطاع الهندسي خلال حكومة الدكتور سعد الدين العثماني:

بشكل أوضح، فإن هاته الحكومة (2016-2021) لم تعلن يوما عن عزمها تدارس الملف المطلبي للمهندسين مع ممثليهم. و هو ما كان بالفعل، حيث لم يسجل أي استقبال رسمي أو غيره لأحد ممثلي المهندسين المغاربة طوال هاته الولاية التشريعية. بل بالعكس، فقد تم تسجيل العديد من الخروقات و الخلافات التي لم تحرك أمامها الحكومة ساكنا رغم الضجة التي واكبتها ( اضرابات و وقفات احتجاجية). و نستشهد بالملفات التالية:

• تخويل بعض مؤسسات التعليم العالي الخاص رخصة تسليم دبلوم مهندس الدولة لخريجيها. فقد أصرت الحكومة على موقفها رغم تنديد جميع ممثلي المهندسين ( النقابة و الاتحاد) و الطلبة المهندسين بهذا القرار.
• قرار تغيير اسم المدرسة العليا للتعليم التقني بالرباط إلى المدرسة الوطنية للفنون و المهن دون احترام أدنى مقومات التنسيق مع المؤسستين الحاملتين لنفس الاسم بكل من الدار البيضاء و مكناس.
• قرار توسيع شبكة المدارس الوطنية للعلوم التطبيقية عبر خلق مؤسسات جديدة تفتقر لأدنى شروط التكوين السليم.
• التجاهل التام لفعاليات اليوم العالمي للهندسة من أجل التنمية المستدامة الذي أقرته اليونيسكو سنة 2019 و الذي سيتم الاحتفال به سنويا في الرابع من شهر مارس انطلاقا من سنة 2020. و ما هو إلا استمرار للتقاعس عن دعم مقترح تنظيمه المودع سنة 2018 من طرف الفيدرالية الدولية للتنظيمات الهندسية و الذي تفاعل معه إيجابا أكثر من 40 دولة و 80 منظمة هندسية ممثلة لكل بقاع المعمور.

القطاع الهندسي ورهانات المرحلة:

انخرط المغرب منذ بداية القرن 21 في إنجاز سياسة الأوراش الكبرى التي كان للهندسة المغربية دور أساسي في إنجاحها. و ها نحن الآن في خضم الترويج لنموذج تنموي جديد كما تم تقديمه على أنظار صاحب الجلالة نصره الله، من طرف المهندس « شكيب بنموسى ». و لا يسعنا إلا أن نزكي كل المقترحات التي أكدت على ضرورة دعم المبادرة و الابداع و الابتكار و المشاريع ذات القيمة المضافة العاليةلكونها جزء لا يتجزأ عن كفايات المهندس.

بناءا عليه، فقد صار من الضروري تخصيص سياسة متكاملة للعناية بهاته الكفاءات و توفيرها بالقدر و الكفاءة اللازمتين لتمكيننا من اقلاع اقتصادي و تكنولوجي و اجتماعي حقيقي. و ما تم تسجيله من مبادرات المهندسات و المهندسين المغاربة منذ اندلاع جائحة كوفيد 19 لهو خير دليل على مركزية و استعجالية تبني استراتيجية واضحة تجعل من الهندسة الوطنية ورشا مفتوحا في خدمة مغرب الغد.

و ختاما، ما يسعنا إلا أن نبقي قوس الأمل مفتوحا على ما ستقرره الحكومة المقبلة حيث سننتظر منها، كمهندسات و مهندسي هذا الوطن، تصحيح المفاهيم و النواقص السالفة الذكر و التسلح بالجرأة الكافية لتطوير الهندسة الوطنية تكوينا و ممارسة و مسارا مهنيا.